M. Fouad El Zoghbi

          وفاءٌ لمعلميّ الأستاذ فؤاد الزّغبي

أرادوا لك صفحةً في مجلّة مدرسةٍ، أنت من أساساتها أساسٌ ومن بنائها حجرُ زاويةٍ. أرادوها سيرةَ إنسانٍ اختلطت أنفاسه بهواءِ صفوفها فتنشقها طلاّبه علماً ومعرفةً ونجاحاً. استاذٌ بنى ذاته بذاته، علَّم نفسه فعلّم الأخرين.

          بدأ حياته ناظراً في معمل الحرير ثمَّ تحوَّل إلى بنَّاءٍ للمعرفة، يرذلُ الجهلَ ، يصقلُ العقولَ، يهذّبُ، بيني، يفرحُ، يتباهى بجمالِ بنائه وبشموخه.

          ترك بسكنتا إلى دير الزور وهناك بدأ مسيرته مع الحساب والكلمة. ستُّ سنواتٍ أمضاها مع الطلاّب يعلمَّهم وبين كبار البلدة يناقشهم ويحاورهم. ثمَّ انتقل إلى البترون حيث تابع مع الآباء الكبوشيين رسالته التّعليميّة. فدفع بمدارسهم إلى الأمام نجاحاً وتألّقاً….
وكان لضيعته بسكنتا نصيبها الأكبر ولمدرستها الحظّ الأوفر. فوصل إليها يوم كانت مهدَّدة بالإقفال. فلم يتردّد من القيام بزيارة المسؤول الأعلى لاخوة المدارس المسيحيّة في الجمّيزة ليتّفق واياه على صيغةٍ ينقذُ فيها هذه المؤسّسة وكان على استعداد لتقديم تعبه دون مقابل – لو فشل في إنهاضها – ولكنَّ العناية الإلهيّة واندفاعه وصدق نواياه اجتمعت كلُّها لتكون إلى جانبه وتساهم في نهضة المؤسّسة وازدياد أعدادها.

          ولأنَّ تكريمهُ تصادفَ مع وفاته، كان لا بدَّ من كلمة حقٍّ ووفاء من أعزّ صديقٍ له، الدكتور ميشال عبد المسيح نوردُ بعضاً منها:

          سألتنيه رثاءً خُذهُ من كبدي              لا يُؤخذُ الشّيء إلاَّ من مصادره

          يصعبُ عليَّ الكلام في مأتم صديق، رفيق درب.

          ويزيده صعوبةً المكان فأنا أقف على تراب بلدةٍ ينبتُ فيه الكلام -الفكر،
شعراً ونثراً، يسمو قاصداً ” الحصين” فيشلحه إلى جانبه عبدالله غانم في جبِّ الصّعتر ويضمخّه بالعطر والعنبر، فيتلقفه الشاعر جورج غانم ويعكسه ” بمرايا غبار” إلى شخروب النّعيمة فيردّده مرداده ويحمله إلى دار النّعيم لتتلوه الملائكة صلاةً أمام ربّ العالمين.

          فيا لعجز الكلام وهزاله في هذا المقام!

          وأقتلُ الكلمات ما تكتنفها الغصّةُ وأكثرها ايلاماً تلك الّتي تتشّحُ بالحزنِ وتتسربلُ بالحدادِ.
فقيدنا الغالي لم يولد وفي فمه ملعقةٌ من ذهب. ولم يتسنَّ له أن يتابع دراسته في مدرسة عريقة، فهو كان ينحتُ من صخر ولا يغرفُ من بحر. ولكنّه بطموحه وبجلده وصبره راح يكدُّ ويجدُّ ويبني ذاته بذاته ويعلِّم نفسه بنفسه حتَّى تمكَّن من اللّغة العربيّة وتضلّع منها حتَّى صار مرجعاً في قواعدها ملّما بآدابها. فامتهنَّ التّعليم في دير الزور أوّلاً ثمَّ في البترون فاعطى بلاحساب،  ولا مِنَّه.  وكان أن شدَّه الحنينُ إلى بسكنتا وفي جعبته علمٌّ ومعرفةٌ وخبرةٌ فراحَ يدرِّسُ في مدرستها مضاعفاً جهوده واخلاصه وصدقه وصراحته وأمانته في العمل. وقد تابعتُ عمله عن كثبٍ بحكم عملي في أواخر السبعينات في مدرسة الفرير في بسكنتا فلم أجد هناتاً أو مأخذاً يُذكرُ فقد انماز بالدقّة والرّصانة. ولأنَّ تلاميذه مميّزين وبمستوى أعلى بكثيرٍ من المطلوبِ في صفوفهم وكلُّ ذلك بفضله فقد كان يقضي اللّيالي الطوال خلف الكتابِ يُحضر، يُصحّحُ الفروضَ ينقحّها .فكان بحقٍّ مثالَ المربيّ المخلص لمهنته المحبِّّ للعلمِ والمعرفةِ المقدَّر للأدباء والشعراء، المهتمِّ بقضايا مجتمعه وحاجاتِ بلدته.

          وفي الختام أتوجّهُ  إلى الرّاحل الكريم قائلاً نم قرير العين لأنّك قمتَ بواجباتك وما عليك على أكملِ وجهٍ، ورحلت كما يرحلُ الشّعاع عندما حان موعدُ الإياب.